زرع بطاطس فحصد حساسية صدر! .. لم يعرف إبراهيم (40 عامًا)، مزارع بقرية صنصفط في محافظة المنوفية، أن تعامله غير الحذِر مع المبيدات الحشرية سيكلفه مرضًا مزمنًا.
يقول إبراهيم لـ”للعلم” إنه اعتاد حين يصاب زرعه بمرض أن يذهب إلى بائع المبيد ويصف له المشكلة فيعطيه الدواء، أما تحديد الكمية المطلوبة وعدد مرات الرش فيتركه لتقديره الشخصي. وكان في كل مرة يرش فيها المبيد يشعر بتهيُّج في صدره وضيق في التنفس مصحوبًا بكحة شديدة تستمر معه عدة أيام، وعامًا بعد عام أصبحت الكحة لا تفارقه.
تكشف العديد من نتائج الدراسات العلمية المحلية والدولية الفاتورة الصحية التي يدفعها الفلاح نتيجة إسرافه في استخدام المبيدات الكيماوية وعدم الالتزام بتعليمات العبوة.
المبيدات والشلل الرعاش
من أحدث هذه الدراسات دراسة مصرية أجراها فريق من جامعة المنصورة بالتعاون مع جامعة ميونيخ في ألمانيا، أواخر العام الماضي، أكدت أن التعرُّض المفرط للمبيدات الحشرية يزيد من خطر إصابة المزارعين بمرض الشلل الرعاش. وكشفت عن وجود جين يزيد من فرص الإصابة بالمرض لدى الأشخاص الذين يتعرضون للمبيدات الحشرية، وفق التقرير الملخص للدراسة، الذي حصلت مُعِدِّة التقرير على نسخة منه.
ويقول محمد سلامة -الباحث الرئيسي للدراسة، وأستاذ السموم المساعد ومدير مركز البحوث الطبية التجريبية بجامعة المنصورة- لـ”للعلم”: إن هناك العديد من الدراسات التي أكدت الارتباط بين كثرة التعرُّض للمبيدات والإصابة بمرض الشلل الرعاش. وأن الكشف الذي توصلوا إليه من شأنه أن يساعد في التقليل من فرص الإصابة بالشلل الرعاش الناتج عن التعرُّض المتزايد للمبيدات الحشرية.
وأضاف: “قمنا بعمل استطلاع رأي شمل نحو 500 مزارع مصاب بالشلل الرعاش، لمعرفة العوامل البيئية المؤثرة، ودرسنا كذلك الجينات التي يمكن أن تزيد من مخاطر الإصابة بالمرض، والإنزيمات التي تساعد على التخلص من السموم الموجودة في المبيدات الحشرية، وتوصلنا إلى أن المزارعين أو الأشخاص الذين يتعرضون بشكل متزايد للمبيدات الحشرية، ولديهم طفرة في جين (BCHE) أكثر عرضةً للإصابة بمرض الشلل الرعاش، وهو ما يفسر سبب إصابة بعض المزارعين بالمرض وعدم إصابة البعض الآخر”.
وأشار إلى أن جين BCHE هو المسؤول عن إنزيم يُسهم في التخلص من بعض المبيدات الحشرية. وشدَّد على أن الاستخدام الدوائي لهذا الإنزيم قد يُسهم في الحماية من المرض مستقبلًا.
الفشل الكلوي والكبدي
في حين كشفت رسالة ماجستير بعنوان ” المبيدات الزراعية وأثرها على الصحة في محافظات غزة” عن تَعاظُم خطر إصابة المزارعين بعدد من الأمراض، منها الفشل الكلوي والكبدي وأمراض الجهاز العصبي والأورام السرطانية؛ نتيجة الإفراط في استخدام المبيدات الحشرية وطول مدة التعرُّض. وأثبتت الدراسة وجود ارتباط بين المستوى التعليمي للمزارع وكيفية تحديده الجرعة المطلوبة من المبيد، وأنه كلما زاد مستواه التعليمي زادت كفاءته في تحديد الجرعة دون إفراط.
تقول معدة الرسالة ناريمان جبر العطاونة، باحثة في شؤون البيئة، لـ”للعلم”: إن سوء استخدام المبيدات أحدث آثارًا سلبية على صحة المزارعين في محافظات غزة، مضيفةً أنها أثبتت انتشار أمراض مثل الفشل الكلوي والكبدي لدى المزارعين بسبب الإفراط في استخدام المبيدات عبر تحليل إنزيمات الكلى والكبد لمئة مزارع، ما كشف عن وجود ارتفاع مستوياتها في عشرين عينة.
وتابعت: “الاستخدام غير الواعي يؤثر سلبًا كذلك على الجهاز العصبي، خاصةً المبيدات التي تحتوي على مركبات فسفورية وقد تؤدي إلى الشلل الكامل، ويزيد من خطر الإصابة بالأورام السرطانية”.
وأشارت إلى أن هناك عددًا من المبيدات له تأثيرٌ على الأجنة، وعددًا آخر تسبب في ظهور أورام في حيوانات التجارب، وعددًا آخر يؤثر سلبًا على الوظائف الفسيولوجية والأعضاء الداخلية في جسم الإنسان، ومبيدات تؤثر على الخصوبة وتسبب العقم. قائلةً: “قمت بتحليل 47 عينة من حليب الأمهات، وأثبتُّ من خلال النتائج وجود متبقيات لمبيدات في الحليب (15 عينة ملوثة)، وبالتالي احتمالات وجود سرطان الثدي وانتشاره لدى السيدات؛ إذ إن وجود مبيد دي.دي.تي في حليب الأمهات مؤشر لإصابتهن بسرطان الثدي”، وفق قولها.
وقالت إنها كشفت عبر الاطلاع على سجلات المستشفيات في محافظات غزة وتحليل 50 عينة دم أن الكثير من المزارعين وأبنائهم يعانون من أمراض مثل السرطان والفشل الكلوي والتهاب الكبد والربو أو الغدة الدرقية، وأضافت: “يعود ذلك بنسبة كبيرة إلى عدم التزامهم بإجراءات الوقاية والسلامة، وكذلك وجود 60 مادةً مسرطنة تدخل محافظات غزة كان لها الدور والارتباط الوثيق في حدوث حالات السرطان وازديادها، ووجود متبقيات مبيدات في الدم قد يكون دليلًا على ذلك، وكذلك لا أنفي العوامل الأخرى”.
سرطانات الرئة والبروستاتا
نتائج مشابهة توصل إليها مشروع الصحة الزراعية، وهو سلسلة من الدراسات أجراها باحثون من كلٍّ من المعهد الوطني للسرطان بالولايات المتحدة الأمريكية، والمعهد الوطني لعلوم الصحة البيئية، ووكالة حماية البيئة، للتحقُّق من تأثير المبيدات وبعض الأنشطة الزراعية على الصحة.
تناولت النسخة الأولى الفترة من 1993 إلى 1997، حيث جمع الفريق البحثي بيانات أكثر من 52000 مزارع في الولايات المتحدة، وما يقرب من 5 آلاف نوع من المبيدات. وأعقبها مجموعة دراسات لتحديث البيانات وجمع المعلومات استمرت حتى عام 2015، وكشفت الدراسات المتوالية أن التعرُّض المتزايد للمبيدات الحشرية يؤدي إلى ارتفاع معدلات إصابة المزارعين بأمراض مثل سرطان البروستاتا والرئة والسكري والشلل الرعاش والغدة الدرقية والورم النخاعي المتعدد، بشكل ملحوظ. وكشفت واحدة من الدراسات الارتباط بين ارتداء القفازات الواقية والالتزام بالممارسات الصحية وانخفاض نسب الإصابة بمرض الشلل الرعاش بين المزارعين، وفقًا لأحدث تقرير للمشروع.
أنواع المبيدات وطرق وصولها للمزارع
والمبيدات اصطلاح يُطلَق على كل مادة كيمائية تُستخدم في رش المحاصيل للقضاء على الآفات. وتصنف إلى: مبيدات الحشرات والعناكب والقوارض والقواقع والديدان الخطية والفطريات والأعشاب، وذلك وفق كتيب آفاق التنمية الزراعية المستدامة، للدكتور نبيل فتحي السيد قنديل، الأستاذ بمعهد بحوث الأراضي والمياه والبيئة بمركز البحوث الزراعية، حصلت مُعدة التقرير على نسخة منه.
ويقول نبيل فتحي لـ”للعلم”: إن الإسراف في استخدام المبيدات الكيماوية بصورة مكثفة في الأغراض الزراعية يؤدي إلى تلوُّث المسطحات المائية والتربة، وكذلك المحاصيل الزراعية والثمار، كما يؤثر سلبًا على صحة المزارع.
ويشير إلى أن مصير المبيدات يختلف بعد استخدامها في الحقل، سواء الفقد عن طريق التطاير أو الالتصاق بحبيبات التربة أو التفاعل الكيميائي مع التربة أو التسرُّب إلى الماء الأرضي مع مياه الري.
ويستطرد بقوله: إن الضرر البيئي لهذه المبيدات يأتي من أن أغلبها مركبات حلقية بطيئة التحلُّل، وتحتوي على عناصر ثقيلة ذات درجة سُمِّيَّة عالية، كما أن نواتج تكسيرها تزيد من تركيز وتراكم عناصر الكلور والفسفور والنترات فوق الحدود المسموح بها في التربة الزراعية.
ويضيف أن خطورة المبيد لا تقتصر على تناوله عن طريق الفم وأكل الخضر والفاكهة، ولكن يمكن أن يُمتص عن طريق الجلد والعين والرئتين، وتزداد الخطورة مع تركيز المادة الفعالة، بما يجعل تأثيره الخطير يمتد إلى كل العاملين في المجال، ومما لا شك فيه أن استخدام المبيد بجرعة أكبر من الموصى بها يؤدي إلى زيادة المتبقي منه في المحصول أو التربة.
ووفق كتيب آفاق التنمية الزراعية المستدامة، تشير العديد من نتائج الأبحاث العلمية المنشورة إلى أن مخاطر استخدام مبيدات الآفات الزراعية تؤدي إلى ظهور العديد من الأمراض الصحية، مثل ضعف المناعة وتضخُّم الطحال والفشل الكلوي والكبد الوبائي وأمراض الجهاز التنفسي والسرطان.
الاستخدام الآمن والبدائل
يقول محمد برغش -نقيب الفلاحين السابق- لـ”للعلم”: إن التعامل مع المبيدات يحتاج إلى ثقافة وتوجيه، وما لم يحدث ذلك فليس علينا أن نتعجب من أن “الدب قتل صاحبه”، وأضاف أن كثيرًا من المزارعين أميون، ومن ثم لا يقرأون تعليمات العبوة قبل استخدامها، ولا يجدون مَن يقدم لهم الإرشاد الزراعي لتحديد الجرعة المطلوبة دون إفراط أو مبالغة في عدد مرات الرش، كما لا توفر لهم وزارة الزراعة أدوات الوقاية مثل القفازات والأحذية والكمامة التي تحميهم من أضرار التعامل المباشر مع المبيدات.
وأضاف أن المزارعين يتعرضون للأمراض بسبب عدم اتخاذ الإجراءات الواقية التي تحميهم من استنشاق الغازات والروائح القوية التي تنبعث عن فتح العبوة، كما لا يعرفون تأثير المواد الكيماوية التي يستخدمونها، لا سيما عند خلطها بالماء أو مواد أخرى، ومن التأثيرات المباشرة التي يتعرضون لها الحساسية واحمرار العين وحساسية الجلد والحكة.
وهذا ما حدث قبل عامين لأحد جيران أحمد فريد، مزارع بمنطة السبوع في أسوان، حين توفي على إثر استنشاقه لمبيد حشري خلال رش محصوله. ووفق “فريد”، حاول الجيران إسعافه، إلا أنه لفظ أنفاسه قبل أن يصل إلى المستشفى الذي يبعد عن مقر سكنه نحو 150 كيلومترًا.
يقول أحمد فريد لـ”للعلم”: اعتدنا على حالات تسمُّم وسط المزارعين خلال رش المبيد، ونتعامل معها بشرب الماء والملح لنفرغ ما جوفنا، أو نذهب سريعًا إلى المستشفى لأخذ دواء لعلاج التسمم، لكن أمر الله قد نفذ قبل أن يصل جاري للمستشفى، وتوفي وهو لم يتجاوز 18 عامًا”.
يضيف أحمد فريد أن الفلاح في العادة لا يحصل على أي إرشاد فيما يتعلق بكيفية التعامل مع المبيدات، ولا تُقدَّم له وسائل حماية كالأحذية والقفازات والكمامات، وهو ما يعرِّض المزارعين للتسمم وللأمراض على المدى الطويل.
بدائل آمنة
يقول “أحمد عوض”، رئيس قسم بحوث خصوبة التربة وتغذية النبات بمركز البحوث الزراعية، لـ”للعلم“: إن هناك حاجة ملحة إلى ترشيد استخدام المبيدات الكيماوية لتحجيم الضرر البيئي والصحي الناتج عن الإسراف في استخدامها. وأضاف أن هناك عدة بدائل يمكن أن يستخدمها الفلاح ضمن برامج المكافحة المتكاملة للآفات الزراعية، وذلك باتباع بعض الوسائل الطبيعية والعمليات المناسبة، مثل التبكير في الزراعة وإزالة الحشائش المعمرة واستخدام الفرمونات والمكافحة الحيوية وغيرها.
وأشار إلى أن الزراعة المبكرة على سبيل المثال أدت إلى الحصول على بادرات للقطن قوية تتحمل الإصابة بالآفات الأولى، مثل الدودة القارضة والحفار والعنكبوت الأحمر، وحماية النباتات من الإصابة بديدان اللوز آخر الموسم، مما يؤدي إلى المحافظة على اللوز المتكون في الحجر، الذي يمثل 60% من المحصول الرئيسي، وبالتالي انخفضت كمية المبيدات المستخدمة في مكافحة الآفات الأولى وديدان اللوز.
وأضاف أنه على الجانب الآخر، هناك دورات تدريبية مجانية يمكن أن يلتحق بها المزارعون للحصول على الإرشاد اللازم فيما يتعلق بطرق التعامل مع المبيدات بشكل صحيح وعدم الإفراط في استخدامها.
وهكذا يمكن للفلاح أن يتفادى فاتورة الإسراف في استخدام المبيد، سواءٌ عن طريق الاستعانة بأحد البدائل الآمنة أو التعامل الحذِر مع المبيدات دون إفراط في استخدامها، واتخاذ إجراءات الوقاية اللازمة عند الاستعمال.